أخابر عقلي وأسائل روحي.. كيف كانت حين
وقفت بين الجمع، كلٌّ مثبِّت عينيه على حجر، مُنتَظرًا أمر الرجم، لتبدأ احتفالية "الموت للخاطية"؟! هل
سمعتهم وهم يتباحثون تفاصيل ما حصل؟! هل شمَّت رائحة الشبق في كلمات سبِّها ولعنها
ولعن أسلافها؟
فيم كانت تفكر؟ هل بكت وطلبت المغفرة من العالم؟ هل ارتجفت من برد
الفضيحة والتعري؟ أسخرت مما تعرفه من وساخات الجموع؟ ربما استعجلت الموت للخلاص
بين حضن الرب!
يا مريم المجدلية.. تُرى كم رجلاً من
الواقفين اشتهاكِ؟ كم رجلاً داعبتِ خياله وتصوَّر ما قد تقومين به لو أنه اختلى
بكِ؟! وكم رجلاً سبق واختلس النظر إلى خبايا جسدك من بين فرجات خيمتك أو من فتحة
فستانك الذي تمزق وقت القبض عليكِ؟ كم رجلاً تحرَّق شوقًا وود لو كان من مريديكِ
أو ودَّ لو امتلكك وحده؟! كم رجلاً أقر وشهد بخطيَّتك ولم يرها، وقد سمع بها فقط
من خصوم الرب؟!
وحدها من هي مثل مريم من رأت أحط ما
في قلوب الرجال، هؤلاء الواقفون الآن في انتظار الرجم. غاية كل ما فعلوا ويفعلون إحراج
المسيح ومحاكمته، فكانت العاهرة أداة ذلك!
لا تظني يا مريم أننا تركناكِ هناك في
حفرة الرجم فرِحَات بما يجري أو راضيات. لم نكن حتى واقفات في حياد، حتى وإن هتفت إحدانا
مع الحشود عن جهل أو مسايرة أو غسلاً لخطاياها السرية. لكننا موصومات دائمًا
وأبدًا، موصومات حتى وإن أثبتنا العكس، كلنا دائمًا تحت مجهر التخطيء كذريعة
للسيطرة على أنفاسنا والرجم إن لزم الأمر. ستتلبسنا كلنا الخطية يا مريم إن
صرَّحنا بحقك في تجريب الطريق أو إن رفضنا احتكارهم لوكالة الله على الأرض، سنُرجَم
إلى جوارك وننتهي وتنتهي سيرتنا بلا ثمن. لن ينجيكِ شيئًا قتلنا المعنوي.
أنا الآن مثلاً معبأة بأسباب كثيرة،
إن وقعت في أحدها فأنا المُعلَّقة على الصليب المجاور لكِ، إن نسيت وتركت فرحة ما لتبدو
أمام الناس، فرقصت أو ضحكت أو حضنت حبيبًا. إن غضبت، إن قهقهت، إن حرقت الطعام، إن
نتفت حواجبي وإن تركتها. إن عطست صغيرتي وإن عبس زوجي وإن ملَّت حماتي، إن تعطلت
الثلاجة أو مات عزيز أو تغنَّجت صديقة أو استباحني جار. إن تمردتُ وإن قبلت، إن
خمشت وجه الذكورية في أي بقعة في العالم، وإن أذعنت، إن كنت أمًا لطفل واحد أو
سبعة أو لست بأم، إن وقفت في السوق أو في المطبخ أو موظفة في مكتب حكومي.. دائمًا
هناك أحد المتربصين استعدادًا للرجم على الملأ.
هؤلاء الذين لم يملِكوا الجَرأة لجلد
أنفسهم على خطاياهم كشيعة علي، ولم يملكوا جرأة الاعتراف، فرجموا كل
النفوس التائهة في رحلة البحث عن مستقر ووصول.
أتعرفين يا مريم؟! إنك حين وصلتِ إلى
حفرة الرجم، ووقفتِ فعلاً على شفا الموت، فأنتِ أحسن حالاً مما لو كنتِ في يومنا
هذا وفي مدينتنا هذه. على الأقل لم يذكر قومك أمك بسوء ولم يفكر أحدهم في الانتقام
من إخوتك.
تلبَّستِ وحدك الذنب دون ضير لأي من أقربائك. فقط حاولوا حرمانك من
المغفرة، لكننا هنا إن أذنبنا نُرجم في الميادين ألف مرة، في البيت وفي الشارع
وعلى ألسنة الجالسين في المقاهي، وبين زملاء العمل، وفي أقسام الشرطة، وعلى صفحات
الإنترنت، نُرجم ويُرجَم معنا كل مُحبٍّ ولا سبيل له إلا التبرؤ، ثم ببساطة
القرارات العليا يُحظر الكلام يكتفون بلَوْك سيرتنا إلى هذا الحد ويبحثون عن سيرة
جديدة يمكن أن تُلاك.. وكأن دمنا المُراق ماءٌ لأننا أخطأنا كأي ابن آدم.
يا مريم نحن هنا موصومات بجمالنا
وضحكتنا وحريتنا؛ كلنا نُرجم كل يوم في الشارع وفي الفيسبوك ومن سائقي التاكسي
ومدراء العمل والماشين خلفنا في الأسواق. يا مريم لقد طحنتنا التجربة وأجبرتنا على
التجاوز. فاعتدنا التأقلم حتى صار ديدنًا ودينًا. نستسقي الحياة كل يوم بجذور
مبتورة ونستجدي المغفرة على ذنوب لم تقع.
الله لا يريد
موت الخاطئ، لكنك لو كنتِ في يومنا هذا لتمنيتُ لكِ الموت، كما أتمناه لكل
المرجومات، فربما تعودين في حياة أخرى باسم نظيف ونفس
غسلتها التجربة، ولم تنجُ من الشرير. بعدما تكون الجموع نسيت أمر الخطية والقتيلة،
فتبدئين حياة كالحياة، بعين خبيرة وقلب قادر على النسي والتجاوز.