هنا مدخل إلى ينبوع الروح.. لا يمرر غير من تقبل الاختلاف

السبت، 31 أغسطس 2013

حرب الكواكب

ليلة مرت قبل أكثر من 20 عاما.. كان في الخلفية صوت عذب يردد "متخافيش أنا مش ناسيكي"، في بيت جدي أراقص السمك من خلف الزجاج، أسأله: 
جدو.. ممكن تبقى تديني السمك ده وأنا راجعة؟
يقرر: أمك مش هترضى، هتخنقه..
أقضي الليل في تساؤل كيف يختنق السمك! لا رقبه له ليخنق منها. في الفجر تناديني أمي "قومي بقى يا مقصوفة الرقبة"، وتتعجلني لنلحق بالركب العائد إلى القاهرة.
دائمًا تخاف أمي ألا تلحق بالركب.

في الميكروباص يمتعض شيخ للحن "ملهاش حل تاني"، ويطلب من السائق وقف الأغنية لعظم الذنب في نهار الجمعة. فكرت في أن رب الجمعة لديهم هو رب رمضان لدى أمي، وهو أيضا غير رب بقية الأيام.
-          ماما.. هاتيلي سمك زي بتاع جدو.
-          هتعملي بيه إيه؟
-          هعلّمه يعيش برة المية، فاكرة لما تيتة تعبت وخدتيني من عندها وقلتي لازم أقبل أي ظروف؟ ما يجرب هو كمان يعيش برة المية؛ افرضي جدو مات والمية نشفت من عليه؟! والنبي يا ماما.. وحياة رب الجمعة ورمضان.
-          اسكتي بقى يا مقصوفة الرقبة انتي؛ خنقتيني.
من أين يخنق مقصوفو الرقبة؟! ظننت أننا معشر مقصوفي الرقبة مثل السمك، لا رقبة لنا، نحن إذن في أمان من الخنق.

لكن العقاب بألا أحوي أي أليف في البيت دام عمرًا كاملاً..

لم أعرف لما مات جدي ماذا جرى للسمك، لكن كثيرا ما لاموني على فكرة تعليمه العيش خارج الماء، حتى ظننت أني قتلته.
***
في السابعة صباحا توقظني أختي قبل موعد الدرس بساعتين:
-          أمريكا دخلت العراق.. فيه خيانة حصلت.
تصحو أمي على جلبة ذعرنا وترمينا برد وحيد لم تكرره حتى مقتل صدام حسين:
-     خيانة من مين؟ ده كان وقت الشباب، كانوا يقاوموا لآخر شاب فيهم.. وتفتح الراديو مع صوت لا يناسب ساعات الصباح وتفاصيل الهزيمة، ينوح "قاللي الوداع وأنا أقوله إيه".
***
على الشاشة شريط دم ينحدر بنزيف من الأخبار، يحوي خبر مقتل المخرج السينمائي مصطفى العقاد في تفجير بعمان.
مذيع البرنامج علّق بأنه لولا زفاف ابنته لما حضر إلى ذاك الفندق ولنجا بحياته، ثم فاصل بإعلان مشروب بارد وكلمات باردة تناشد "كمل كلامك الليلادي معاك أنا"..
لماذا يحمّل التلفاز ذنب التفجير ليمامة ليلة عرسها، ماتت في نفس الحرب.
منذ ذلك الإعلان والتلفاز يثير داخلي ظنون السوء.
***
ذات ليلة لم تلقينا بالنوم ساعة، أعاد التلفاز فيلم "ليلة سقوط بغداد" وكفنّت صديقين وأبدلت الثالث عينيه بنظارة سوداء، وأخرى لم تجد حبيبها بعد، بعدما وهبها روحا تداعب أحشاءها.
أحدهم أخبرنا أنه آخر يوم شوهد فيه كان صباحا يصرخ "الشعب يريد إسقاط النظام"، ومساءً ينيّم الرفاق مع دندنات "مصر قالت صوت ولادي كلمة الحق ف بلادي"، وكان يحكي مغامراته للخروج دون علم أبيه لأنه يتهم كل أبناء الميدان بمص دم الحياة.
وحده كان يود ضخ الدم فيها، وحده ضاع.
***
بالأمس كان اجتماع مع مجلس إدارة المجلة.. "نأسف لكم يا حضرات، أنتم أبناؤنا الأعزاء، ونرجو منكم أن ترفعوا رؤوسنا في صحف أخرى.. لأن جريدتكم هذه ستغلق في نهاية العام...".
لم أسمع كثيرا مما قيل في الاجتماع؛ صوت النهنهات كان يغطي على صوت رجال الإدارة، في مجلة "جيل التمانينات" أكثرنا لم نعمل بالصحافة من قبل، أو هكذا رأينا أنفسنا.
لكن أحد الإداريين القدامى تجاهل كل التعنّتات التي استُنفِدنا في كسرها، واختصر الأمر بأن المجلة سقطت لما ولّوها لـ"شوية عيال".


صوت من داخلي ردد "ونندم ع العشرة الغالية ونرضى بالمكتوب".. لم أعرف لما مات جدي أين ذهب السمك.. لم أعرف كيف شاركت ابنة مصطفى العقاد في الجريمة، وكيف تخاذل شباب العراق، وكيف سقطت "جيل التمانينات" لما تولاها أبناء الثمانينات، لم ندر حتى الآن كيف بقي الحبيب الضائع في المشرحة أسبوع حتى تعرّف عليه أبوه، فقط عرفت أن بغداد سقطت وأن مقصوف الرقبة يُخنق من الداخل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق