هل أخبرتك من قبل أنك لست الوطن الصالح لي؟ لا أعرف بعد إن كنت كذلك أم أن حبك فطري لا يموت.
سئمت تكرار أغنيات الشجن ونزف المشاعر بيننا، أي زمن هذا الذي يحتم ممارسة الحب سرًا ويرتضي القهر في وضح النهار؟! إنه محض عبث.
بالأمس عندما ذهبت لتستقبل صديقتك المصرية الخليجية "عائشة" لم أُبدِ لك تسرب روحي مني، لم أبد الوجع كما ينبغي أن يبدو.. اكتفيت بدور الإنسانة؛ أوصلتك بسيارتي إلى المطار ورحلت دون تأبين يليق.
في كل مساء بينما تعبئني بك، تصنع في رأسي ثقبًا تتسرب منه دروس الماضي.. وكأن عمرًا متخمًا بالتجارب لم يكن.
***
في الأيام الفائتة ومع تصاعد الأحداث في الشارع، اعتدت العيش مع الجلبة، بحكم سكني في مواجهة الوزارة تمر المسيرات تحت نافذتي، يصرخون "البلد دي بلدنا والشهدا دول اخواتنا"..
الاستعداد للموت يطفو على وجوه الأطفال/ الرجال.. ورائحة الخوف تتصاعد من الهيئات السلطوية.
أتساءل: إلى الموت يسيرون بخطى ثابتة أم إلى الفجر؟ أخشى أن تكون الشمس محض سراب.
يبات الأطفال على الأرصفة، يتسامرون على أصوات الرصاص وأناشيد الشيخ إمام. أدمنت رائحة الغاز التي يعاندها الاعتصام..
أخاف من تكرار تخديري أمام شبقك كل ليلة.. أخشى أن تصنع مني مسخًا ومع الأيام سألقى على شواطئ النسيان.
كثيرون هم من رأوا بسمات الشهداء فذرفوا لها دمعة وحيدة وضربوا الأكف، وانصرفوا، ناسين الأمر برمته.
لا أحد يواسيني في غيابك...
كثيرون أيضًا من يجنون ثمار زرعتنا...
الجماعات الإسلامية بعد أن عاشت عصور الظلام تسيطر الآن وحدها على الجهات التشريعية.. وتنكر شرعية الميدان.
وحدها "عائشة" لها أن تتكئ على ذراعك أمام الأصدقاء.
اليأس خيانة.. اثبت مكانك.. الثورة مستمرة.. حق الشهداء.. شعارات تطاردني في الشوارع وعلى صفحات الإنترنت.
البراعم اعتادت لون الدم وصوت الرصاص.. لم يعد يرهبهم توحش السلطة.
لماذا إذن خفت مصارحة والديك بحبنا؟ لماذا قدمت دمي قربانًا لهما؟ لمَ استسلمت لقواعد أوجبها علينا الكبار دون وضعنا في الحِسبة؟
مـــــــــــــــــــــن جــــــــــــــــــرّم الاعتصــــــــــــام أمـــــــــــــــام الـــــــــــــوزارات القمعيــــــــــــــــــــــة؟!
لا أدري إن كنت تخونني مع "عائشة".. أم تخونها معي...
بينما أنسجم مع فيروز وهي تتحايل على القواعد وتستعطفك بما كان مرددة "انت حلالي رغم العيال والناس" ينازعها الأبنودي بصوته الأجش "احنا ولاد الكلب الشعب".. هي الأضداد مجتمعة في سهرتنا.. سنصلي متوضئين بالخمر.. لا تندهش؛ سنمارس الحب الليلة على أصوات الرصاص والهتافات "الاعتصام مشروع مشروع ضد الفقر وضد الجوع".. أبتسم وأقبلك بهدوووء...
***
الأطفال مسالمون طيلة أسبوع مضى، لكني رأيتهم اليوم يحاولون اقتحام المبنى الحكومي.. أنا مرتبكة جدًا.. من بدأ بالقتل؟ حامل السلاح؟ أم حامل الهم؟
أتأرجح بين البرامج التلفزيونية، هذا يحلل وذاك ينظّر، هم بلطجية.. هم ثوار.. مأجورون.. جاهلون.. تعصب.. حقوق مهدرة.. راكبو موجة.. أهالي شهداء...
ببساطة.. هم صنعوا من أولئك الأطفال وحوشًا يجرونهم إلى أخذ حقوقهم عنوة.
سهراتنا معًا حق لي، أنا التي أحبت وقُهرت بفروض طاعتك لوالديك، فلتكتفي "عائشة" بالظهور معك في المناسبات الاجتماعية.
***
ما حكم سرقة الحقوق؟
سألت شيخ الجامع فاكتفى بدرس في أفضلية الزهد وخلفني في مواجهة المحراب.
وأبي يضجر لسماع لفظ السرقة، ويذكرني بوجوب الطاعات..
مــــــــــــــن أوجــــــــــــــــب الواجــــــــــــــــــب؟
سئمت نصائح الحكماء؛ تتجاهل دائمًا نزف الروح، أي حكمة ترتضي الدم بلا ثمن؟! تعنفني أختي لأتركك لـ"عائشة".
تلّح على ذهني كلمة مستر مينا مدرس الميكانيكا في المرحلة الثانوية "لتفهم المسألة شغل خيالك؛ حساب الورقة والقلم غير كافٍ لتكوين الصورة كاملة بعقلك".
كنت كثيرًا ما أحل المسألة دون الناتج النهائي، فيضاحكني ويقول لي "يا طفلتي.. نصف حل كلا شيء".
أفتش في الأوراق القديمة.. هنا وردة تكسرت من ثِقل الكتب فوقها، وهنا رسالة غرامية بهت لونها، وزجاجة عطر معتق، وأول جورب لبسته في حياتي.. تعرف أني أفضل المشي حافية، فلملم زجاجك المكسور من أرضي.
ها هو رقم مستر مينا.. اتصلت به فعرفت أنه أيضًا رحل سدى، وجدوه مذبوحًا في مشرحة المستشفى القبطي بعد مذبحة ماسبيرو...
أرسل إليك رسالة ربما تكون الأخيرة...
"لا أستطيع الرد على اتصالاتك الآن أنا في المسيرة".. أغلق الهاتف وأصيح مع الرجال "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق