جميعهم كانوا يسردون القصة من أول لمبات
السقف التي تجري للوراء، مرورًا بشريط الذكريات الذي تمر سنواته في لحظات، وصوت
الأطباء الأجشّ، ثم هلوسات البنج، وحتى زملاء العنبر الذين تتخلل جراحهم الحكايات
والسمر.
لم أجد أيًّا من ذلك، فقد دخلت غرفة العمليات
ماشية على قدميّ بالجاون الأخضر.. وحدي، كان يصاحبني فقط صوت صفير أجهزة غير
مفهومة، وفراغ.
أبَى جهازي العصبي الاستجابة للتخدير النصفي، أبى إلا خدَر كامل وانفصال تام أو لا شيء، استسلم الطبيب للأمر الواقع وقرر حقني بالخدر الكامل، لكن انتقامًا
لعنادي حقنني به على حين غدر، وكعادة كل غدر لم أنتبه إلا بعد تمام الأمر.
كنت خائفة من ساعة الإفاقة، حتمًا سأعترف بقصص
أُغلقت عليها صناديق الأسرار، وسأعترف بشرور لم تبدُ على وجهي الطفولي، وستنفضح كل
خططي بترويض الأمور.
وربما في الهلوسات أروي أمورًا خيالية ولن
تُعرَف من الحقيقة، كأن أحكي أن الأمر كان محض دعابة ولم أحتج إلى الطبيب كما رويت في
أحد المنامات، أو أروي أن العملية كانت يسيرة وأن طبيبة التخدير الحسناء كانت
جميلة حد طمأنتي.. في الحقيقة كانت مضطرة إلى طمأنتي لأنهم أخبروها أنني قد أصاب
بإغماءة تحت التوتر العصبي. كل الطيبين يومها كانوا مضطرين.
لم أعترف بأي أسرار ولم أفتح أي غرف مظلمة
لحظة خروجي من غرفة العمليات، شكل الناس تحت تأثير البنج ألهاني عن أي اعترافات،
رأيت أحدهم أصغر من أن يوضع في حسبان، والمرأة المتغطرسة كانت هزيلة جدًا
مع أثر البنج، وآخر كان كبيرًا، كبيرًا جدًا، خفت أن يكون أكبر من أن يحتويني، لبرهة خفت أن
أتوه بداخل حضنه.
لكن الجميع كانوا بأكثر من عينين، ويشغلون أنفسهم بمراقبتي أيًا كان اتجاهي. وجميعهم كانوا بفم كفم الطيور يتربص لنقري.
لكن الجميع كانوا بأكثر من عينين، ويشغلون أنفسهم بمراقبتي أيًا كان اتجاهي. وجميعهم كانوا بفم كفم الطيور يتربص لنقري.
الكثيرون سقطوا مني. لم يفهموا أن حالات المرض ليست مجرد وجع في عضلات الجسد، حالات المرض وجع في ذهن المريض وخيالاته الأليمة بتوقع المستقبل، ووهن على وهن.
حالات المرض هي خطوة نحو الموت، بغض القلب عن
اتساع الخطوة، ولكنها نحو الموت.
حالات المرض جوع وعطش لا تملك إماطتهما إلا
بمساعدة آخر، ووخز بحجم عقلة الإصبع لا ينفك عن الهمس في أذنك وإخبارك بأنك لا شيء، وجعل كيفية ضبط وضع ظهرك على السرير هو أهم ما يشغل عقلك.
كل الهدايا لبن وعصير صناعي، لا أحد يأتيني
بالعلكات الملونة ولا أكياس الشيبسي بنكهاتها الحريفة، كما أن انتصار تعدد
الصداقات بدا انتصارًا زائفًا حين لم يزرني الكثير وأفاجأ بأغراب يسألون عني بقلق.
الكثيرون سقطوا لما لم ينتبهوا لمدى الوهن
والفراغ المتربصين حولي، ولم يتكلف الكثير باتصال.. حاولت جبر الأمر بمن أتى من
الغرباء والمنسيين.
أحتاج لمن أعترف له بأني أصطنع بعض الهلوسات
بأني أتعافى من عملية ولادة قيصرية وأحاول إرضاع العرائس لأخفف وطأة الفراغ
والوجع.
أنا لا أحمّل الأمر أكثر مما يحتمل؛ استئصال
الزائدة ليس عملية سهلة كما يخبروننا، الجرح جرح، البنج بنج، الحقنة والمحلول
وغباء الممرضات واحد. لا شأن لي بما يدور داخل جسدي، لا شأن لي بعدد الساعات الباقية للتعافي أو الموت؛ كل ما يهمني الآن هو الآن.
كبرت العملية أو صغرت لا شيء يكسر ملل بياض
الشاش والقطن والأسرّة وكوب اللبن، فقط اصفرار البيتادين برائحته الكئيبة.. لا
علاقة للأمر بخطورة العملية؛ الملل واحد. كآبة رائحة المرض وهلع الأصوات الصادرة من المرضى حولي واحدة.
أصلًا من سماها الزائدة؟ أنا أشعر الآن -بعد
استئصالها- بفراغ في بطني لا تملؤه القراءة ولا أفلام الكارتون. ربما ستملؤه فقط
صحبة طيبة قد تأتي على غفلة.