هنا مدخل إلى ينبوع الروح.. لا يمرر غير من تقبل الاختلاف

الاثنين، 18 مارس 2013

إلى امرأة النور واليقين "غادة خليفة"


عرفت أن الله أحبني يوم أسقطكِ في طريقي إلى الفراغ، شيءٌ ما حثّني على المشي معكِ إلى بيتِك رغم صغري؛ كنت أصغر كثيرًا من أن أحتمل دمعتك، لم أكن أفهم وقتها لغة اللمسات التي خاطبتِني بها، لكني سمعتك للنهاية.

أعترف لكِ يا "غادة" أني أغار ذاك السيل من الفهم المغموس بالإحساس، الذي يتدفق منكِ فوق كل جرح أشكوكِ إياه.
طلبت من الله أن يجري على لساني كلمات بلون إحساسك، أنا على الطريق، لكني لا زلت أتكسّر أمام أوجاع الصغار وأستعيد ذكرياتي الموجعة أمامهم،  فلا أعرف أن أهديهم حيوات كالتي أعيشها كلما مسحتِ لي دمعة، لا أتقن غير الربت على أكتافهم.. لا أجيد نشر الفراشات مثلِك يا "غادة".

أعرف أن فهمك قد غزله الوجع، وأنا أخاف الوجع، وأجيد البكاء والشكوى، لا أحتمل نضج الألم داخل قلبي.
يوم أهديتِني مفتاح تجاربك لأصحح لكِ ما تكتبين لم أصدّق أني صرت المسؤولة عن صحة كتابتك؛ لست أهلاً لتصحيحك يا "غادة"؛ أنتِ في خيالي الطفلة التي تكبرني بألف عام وتصحح كل أخطاء الدنيا بكلمات صِدْقها ورقّتها يجلداني..
كيف أصححك وأنتِ التي يمكنها الرقص فوق شظايا الزجاج المتكسّر، وتحثني على رقص الهيلاهوب ولو داخل إطار السلك الشائك، والوحيدة التي فهمت جنوني بالمشي حافية رغم امتلاء قدميّ بالشقوق من رحلات سابقة دون حذاء، ورغم خوفي من شقوق جديدة لن يقوى قلبي على تجاوزها.. تغزل النور وتطمئنني بأن الله يلقي بالهدايا من نوافذ السجون.

صدّقتك اليوم وأنا أقرؤني في كلماتك.

دائمًا ما أُلبِس الناس غير ثيابهم وأشكو تعثرهم فيها، وحدكِ يا "غادة" قابلتها عارية وتركتها تختار ثوبها؛ خفت أن ألبسك ثوب أمي التي تكذِّب الأحلام، أو ثوب أختي التي غابت وتركته ولم تعُد ثانيةً، ولن ألبسك ثوب صديقتي الضيق، الثياب كلها أضيق منكِ يا "غادة"، وحدك أتيتِ شفافة بثوبك الخاص.. وحدك تُعلِّمني أين يكون النور، أنتِ المرأة التي أحب كذباتها الصغيرة وهي تقسم أن هذا الموت الذي أنغمس فيه سيُضحِكُنا غدًا ونحن نرتشف قهوتنا النسائية في كل الأمكنة.. تقولين هذا وأنتِ لا تدركين نهايةً لموتك.. لكنه اليقين.

ربما لسنا صديقتين بما يكفي لأنك يا "غادة" تفهمين أكثر مما أحتمل، أتذرع أنا بأني ذات طابع مهمل للصداقات، وأتذرع بعذابات العمل والوقت الخانق، لكنه الخوف يأخذني منك، أنا أخافك حين ترسمين أمامي خريطة كذبي على ذاتي وتواجهيني بي.
ولكني مؤمنة بأن الله يحبني يوم أظْلَم الدنيا وتركك وحدَكِ تبعثين النور، لأسير باتجاهك.

الاثنين، 11 مارس 2013

الساقطون في بقعة الزيت


منذ زمن.. في سنوات عمري الطازجة.. عندما كان أكبر همومي أن أعلِّق إسدال الصلاة على الشماعة دون أن أقف على أطراف أصابعي، كان لي أبٌ شاب، لم ينجبني، لم أحمل اسمه، بل جررنا معًا الاسم نفسه بعد اسمينا.
لم ينتبه يومًا لكونه أخًا أكبر؛ ترك الأمر لأولياء آخرين. كان يكفيني لبسه ثوب الرفيق؛ حضوره في حيّز يومياتي كان كافيًا للقاء مخاوف الدنيا بقلب قوي.

لما رويت له عن الولد الذي كان ينضح بي ويستسقي مني البسمات البكر، وكيف كان سقوطه مدويًا في بئر الجاز الخليجية، استحثني على إطلاق الدمعات لأنفض عني غبار القصة، فأقوى لأضع النقطة الأخيرة.. كان السند الوحيد في مواجهة شيب المشاعر.

وبعد ليالٍ ليست بالطويلة، جاء أخي يحكي عن أحلام لا تُطال بغير العملات الصعبة، وحيوات لامعة في القارة المجاورة، من الظلم أن نموت قبل أن نحياها.. حدثني عن عطور لا يذبل عبيرها وبنات ينبض الدم في وجوههن لسن كبنات شارعنا اللاتي أجهدهن السعي.. وذاك كله لا يتأتى بغير الدراهم!
ليلتها لوّن الحجرة ببقع السراب، وبسمة بلهاء كانت تبتلعه ببطء من أمام عيني..
وبعد أيام قلائل انزلق أخي في بقعة النفط نفسها.. هناك.. على حدود الأرض.

كان الاتفاق على سنتين من الاغتراب لجمع ثمن الأحلام، غاب سبع سنوات؛ كلما جمع ثمن حلم برق له حلم جديد.. سبع سنوات سفر كانت كفيلة لتأكل روحه.. حملت وحدي سقف الدنيا في انتظار عودة عمود البيت..
وحدي أتممت مشوار التلمذة وخرجت إلى رحلات العمل وتساقط الرفاق واختيار الرجال..
سبع سنوات كان وصلنا أثيريًا، حيث الضحكات يمثلها الضغط الثقيل على زر الـ"هـ" على لوحة المفاتيح. وفي إجازاته السنوية كان وقته أضيق من صنع البهجة، وروحه بدأت تتعثر في المشي جواري برداء الرفيق؛ عوّضني بماركات عالمية على الملابس، وعطور باهظة الثمن خاوية الذكرى لا تثير أي شغف.
لم يعد يعبأ بأحلام الحيوات الأخرى والبنات النابضات بالحياة..

سبع سنوات، عاد بعدها، حينما كان اختلاف الرأي قد أفسد كل قضايا الود..
عاد واستقر في نفس الحجرة المجاورة.. ولما حلّت الليلة الأولى ورحلت الأضواء لترتاح من صخب البشر، دققت له على الجدار دقة واحدة، لم ينتبه لها، ربما لم يعد يذكر لعبة الدق على الجدار. كانت دقة تعني "أنا لسة صاحية.. ما تيجي!"، دقتان "ماما جاية؛ خلّص التليفون"، ثلاث دقات أو أكثر "برخم عليك بس". لم يذكر اللعبة أو لم ينتبه لها، لا فرق.


لما هزأ بالفيلم الذي فوّر مشاعري وأسال دمعاتي، سألته إن كان لا يزال يتذكر ولد الطفولة الساقط في بئر الجاز. لم أكن شغوفة برواية الجديد، فقط أردت بعث رفقته من جديد؛ أخبرته أن الولد تزوج من إحدى المتلحفات بالسواد بعدما رفضت أنا أن أخبئ وجهي عن الشمس، فأجاب بأن حجم كحكة شعري الواضح من تحت الحجاب يثير خيال مرضى القلوب، وذاك حرام بالعقل والنقل.
كنت أعتقد في أن الإله أرفق مما تعلموه هناك في بقعة الزيت، كنت أعرف أن الأمر أبسط من كل ذاك الضجيج والسفسطة، فما ألِفَتْه قطتي واستكانت معه فهو حلال لا ينقص رضا الرب..
فالفيلم الذي يفوّر روحي حلال، وموزارت حلال، والأحمر حلال، الضحك رائع كما الكلام المقدس، وكتبي حلال، ومصادقة مارية جارتنا حلال.
فردَّ بأن القطة نَجَس وسؤرها نَجَس..

في رحلة البحث عن وطن.. رأيت أخي الأكبر يصلي الغائب على شهداء اللا شيء، متوضئًا بدم رفاقي، غير عابئ بنزيفنا.
أوجعني تذكر كم كنا وحيدتين أنا والساعة في الانتظار!
الساعة التي أنهكها عدُّ ثواني السنوات السبعة رفعتها من على الحائط، وعلّقت مكانها صورة قديمة لأخي في عمر اليفوع، ورسمت عليها خط حداد خفيّ لم يره غيري.. وخرجت أرحّب بالضيف الجديد الدائم.