هنا مدخل إلى ينبوع الروح.. لا يمرر غير من تقبل الاختلاف

السبت، 19 يناير 2013

وللاحتواء عذابات أُخَر



كان أول ما فعلت يوم خرج قياس قدميّ من قياسات الأطفال، بحثت عن الكعب العالي.. كان أنيقًا وبسعر يستحقه ويناسب مصروفي، كان كعبًا عاليًا لكنه لائق مع كل الملابس.. بعد حين، خرجت من الحذاء بتشوّه في العمود الفقري، خلعته وأنا هشّة، دون وتر يشد عودي.

كل من حولي يعرفون أني صرت أُفضّل المشي حافية، فيدمون قدميّ لينتشوا. هم فقط يريدون اعترافًا بأن نصائحهم بانتعال أي شيء، كانت تستحق الإذعان.. هم لا يعرفون أن هوسي بالحفي يجر خوفًا من المرور في طرقات حتمية، مفروشة بزجاج مكسور وذكريات مسنونة.

في خزانة ملابسي ثوب أسود مُعدٌّ لعزاء ما.. لا أعرف عزاء مَن، لكني أنتظره، وفي بعض الليالي الباهتة أبكيه وكأنه حاصل، لكن الثوب ينقصه حذاء يحتمل ثِقل الحدث.
يرهبني وطء المقابر لتوديع عزيز وأنا حافية، ستنخر أرض الفراق قدميّ ولن يمكنني الصمود طويلاً.

في أمسيات العائلة أجلس حافية؛ ظننت أن صلة الدم قد تمد وترًا بين العقول أو تشبك خيوطًا تلضم القلوب فيربتون عليّ، لكني دائمًا ما أصير تسلية السهرة، لأني كأطفالهم، أخلع الجوارب في منتصف الطريق.

في أحد الأعراس كان البنات يلتقطن الفرسان بخفة رقصاتهن.. كنت خجلى من ضيق حذائي، كانت مشيتي مريضة وأنا محبوسة داخله؛ اختبأت عن أعين الفرسان حتى لا يظنونني عرجاء.

وليلة حفل تخرجي اخترت حذاءً، لكنه كان مفرط الاتساع؛ أشعرني بالخلاء.. نصيحة البائع بأن أتغلب على الاتساع بفرش لم تطمئني؛ أجبته بأن هذا الحل دق وتد الفشل من قبل؛ الفَرْشات تهترئ سريعًا وتعيدني إلى البراح المفرط وحدة احتكاك الحواف.
فاجأتُني بأني أكرر اختيار الأضيق، فأن أضغطني داخل قياس لا يسعني، أرق من احتكاكات الاتساع..
دائمًا الاختيار بين الضغط.. والفراغ.

أحذيتي الضيقة تؤجل رحلاتي، أفكر ألف مرة قبل ارتداء أيّهم، أخشى المشاوير الطويلة، أضبط ألوان الملابس وأنسقها مع الحذاء الأريح، لكنه أيضًا ليس متسقًا مع قالب قدمي كما وددت.
بعد عدد من المشاوير صافية الرمادية وتفويت ملذات كثيرة، رغبة في العودة سريعًا، أجد النتوءات تزيد في قدمي، تأخذ شكلاً أكثر شراسة وابتذالاً.
يحدثونني عن صالونات التجميل. هي لا تداوي إلا الخدوش السطحية والخشونة التي سببَّها سوء المناخ. لكن ما ظهر في قدمي مسمار القدم (أو كاللو)، هو ليس بأذى سطحي، هو يتعمق داخلي ويزيد الخلايا الميتة سُمكًا.

في رحلة البحث عن أشياء منفرطة، كان حذائي الأخير. لأشتريه أخلفت مواعيد الأصدقاء والعمل، لم يغضبوا عندما أخبرتهم سبب غيابي. كان باهظ الثمن، دفعت لأجله مدخر أول شهرين عمل..
ولما انزلقت به انقطع؛ لم يستجب بعدها لمحاولات الإصلاح.. أعادني إلى تجاهل الطرقات المفروشة بالزجاج، واستنكار نظرات الفضوليين، ما بين مشفقٍ وساخر.. ردّني إلى المشي حافية..
حرة.. طبيعية.. وخائفة..